الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
لأن التلهف يحق إذا صبحهم فغنم أموالَهم وآب بها ولم يستطيعوا دفاعه ولا استرجاعه.فالفاء من قوله: {فسوى} للتفريع في الذكر باعتبار أن الخلق مقدم في اعتبار المعتبر على التسويه، وإن كان حصول التسويه مقارناً لحصول الخلق.والتسويه: تسويةُ ما خلقَه فإن حمل على العموم فالتسوية أنْ جعل كل جنس ونوع من الموجودات معادِلاً، أي مناسباً للأعمال التي في جبلته فاعوجاج زُبَانَى العقرببِ من تسويه خلقها لتدفع عن نفسها بها بسهولة.ولكونه مقارناً للخلقة عطف على فعل {خلق} بالفاء المفيدة للتسبب، أي ترتَّبَ على الخلق تسويتُه.والتقديرُ: وضْعُ المقدارِ وإيجادُه في الأشياء في ذواتها وقواها، يقال: {قدر} بالتضعيف و{قدر} بالتخفيف بمعنىً.وقرأ الجمهور بالتشديد وقرأها الكسائي وحده بالتخفيف.والمقدار: أصله كمية الشيء التي تُضبط بالذرع أو الكيل أو الوزن أو العَدّ، وأطلق هنا على تكوين المخلوقات على كيفيات منظّمة مطردة من تركيب الأجزاء الجسدية الظاهرة مثل اليدين، والباطنة مثل القلب، ومن إيداع القُوى العقلية كالحس والاستطاعة وحِيلَ الصناعة.وإعادة اسم الموصول في قوله: {والذي قدر} وقوله: {والذي أخرج المرعى} مع إغناء حرف العطف عن تكريره، للاهتمام بكل صلة من هذه الصلات وإثباتها لمدلول الموصول وهذا من مقتضيات الإطناب.وعطف قوله: {فهدى} بالفاء مثل عطف {فسوى}، فإن حمل {خلق} و{قدر} على عموم المفعول كانت الهداية عامة.والقول في وجه عطف {فهدى} بالفاء مثل القول في عطف {فسوى}.وعطف {فهدى} على {قدر} عطف المسبَّب على السبب أي فهدى كلَّ مقدر إلى ما قدر له فهداية الإنسان وأنواع جنسه من الحيوان الذي له الإِدراك والإِرادة هي هداية الإِلهام إلى كيفية استعمال ما قدر فيه من المقادير والقوى فيما يناسب استعماله فيه فكلما حصل شيء من آثار ذلك التقدير حصل بأثره الاهتداء إلى تنفيذه.والمعنى: قدر الأشياءَ كلها فهداها إلى أداء وظائفها كما قدرها لها، فالله لما قدر للإِنسان أن يكون قابلاً للنطق والعِلم والصناعة بما وَهَبَه من العقل وآلات الجسد هداهُ لاستعمال فكره لما يُحصِّل له ما خلق له، ولما قدر البقرةَ للدَّر ألهمها الرَعْي ورِثْمَانَ ولدها لِتَدرَّ بذلك للحالب، ولما قدر النحل لإنتاج العسَل ألهمها أن ترعى النَّور والثمار وألهمها بناء الجِبْح وخلاياه المسدسة التي تضع فيها العسل.ومن أجلِّ مظاهر التقدير والهداية تقدير قوى التناسل للحيوان لبقاء النوع.فمفعول (هدى) محذوف لإفادة العموم وهو عام مخصوص بما فيه قابلية الهَدْي فهو مخصوص بذوات الإِدراك والإِرادة وهي أنواع الحيوان فإن الأنواع التي خلقها الله وقدر نظامها ولم يقدر لها الإِدراك مثل تقدير الإِثمار للشجر، وإنتاج الزريعة لتجدد الإِنبات، فذلك غير مراد من قوله: {فهدى} لأنها مخلوقة ومقدرة ولكنها غير مهدية لعدم صلاحها للاهتداء، وإن جعل مفعول {خلق} خاصاً، وهو الإنسان كان مفعول {قدر} على وزانه، أي تقدير كمال قوى الإِنسان، وكانت الهداية هداية خاصة وهي دلالة الإِدراك والعقل.وأوثر وصفا التسوية والهداية من بين صفات الأفعال التي هي نِعم على الناس ودالة على استحقاق الله تعالى للتنزيه لأن هذين الوصفين مناسبة بما اشتملت عليه من السورة فإن الذي يسوي خلق النبي صلى الله عليه وسلم تسوية تلائم ما خلَقه لأجله من تحمل أعباء الرسالة لا يفوته أن يهيئه لحفظ ما يوحيه إليه وتيسيره عليه وإعطائه شريعة مناسبة لذلك التيسير قال تعالى: {سنقرئك فلا تنسى} [الأعلى: 6] وقال: {ونيسرك لليسرى} [الأعلى: 8].وقوله: {والذي أخرج المرعى} تذكير لخلق جنس النبات من شجر وغيره.واقتُصر على بعض أنواعه وهو الكلأ لأنه معاش السوائم التي ينتفع الناس بها.والمرادُ: إخراجه من الأرض وهو إنباته.و{المرعى}: النبت الذي ترعاه السوائم، وأصله: إما مصدر ميمي أطلق على الشيء {المَرْعِيّ} من إطلاق المصدر على المفعول مثل الخلق بمعنى المخلوق وإما اسم مكان الرعي أطلق على ما ينبت فيه ويُرعَى إطلاقاً مجازياً بعلاقة الحلول كما أطلق اسم الوادي على الماء الجاري فيه.والقرينة جعله مفعولاً لـ: {أخرج}، وإيثار كلمة {المرعى} دون لفظ النبات، لما يشعر به مادة الرعي من نفع الأنعام به ونفعها للناس الذين يتخذونها مع رعاية الفاصلة...والغُثاء: بضم الغين المعجمة وتخفيف المثلثة، ويقال بتشديد المثلثة هو اليابس من النبت.والأحوى: الموصوف بالحُوَّة بضم الحاء وتشديد الواو، وهي من الألوان: سُمرة تقرب من السواد.وهو صفة {غثاء} لأن الغثاء يابس فتصير خضرته حُوّة.وهذا الوصف {أحوى} لاستحضار تغيُّر لونه بعد أن كان أخضر يانعاً وذلك دليل على تصرفه تعالى بالإنشاء وبالإنهاء.وفي وصف إخراج الله تعالى {المرعى} وجعله {غُثاء أحوى} مع ما سبقه من الأوصاف في سياق المناسبة بينها وبين الغرض المسوق له الكلام إيماء إلى تمثيل حال القرآن وهدايته وما اشتمل عليه من الشريعة التي تنفع الناس بحال الغيث الذي يَنبت به {المرعى} فتنتفع به الدواب والأنعام، وإلى أن هذه الشريعة تكمل ويبلغ ما أراد الله فيها كما يكمل {المرعى} ويبلغ نُضجه حين يصير {غثاء أحوى}، على طريقة تمثيلية مكنية رُمز إليها بذكر لازم الغيث وهو {المرعى}.وقد جاء بيان هذا الإِيماء وتفصيله بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «مثل ما بَعَثني الله به من الهُدى والعِلم كمثَل الغيث الكثير أصابَ أرضاً فكان منها نَقِيُّةٌ قَبِلَتْ الماء فأنبتت الكلأ والعُشُبَ الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا» الحديث.ويجوز أن يكون المقصود من جملة: {فجعله غثاء أحوى} إدماج العبرة بتصاريف ما أودع الله في المخلوقات من مختلف الأطوار من الشيء إلى ضده للتذكير بالفناء بعد الحياة كما قال تعالى: {اللَّه الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفاً وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير} [الروم: 54] للإِشارة إلى أن مدة نضارة الحياة للأشياء تشبه المدة القصيرة، فاستعير لعطف {جعله غثاء} الحرفُ الموضوع لعطف ما يحصل فيه حكم المعطوف بعدَ زمن قريب من زمن حصول المعطوف عليه، ويكون ذلك من قبيل قوله تعالى: {إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام} إلى قوله: {فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس} [يونس: 24].{سنقرئك فَلَا تنسى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يخفى (7)}.قد عرفت أن الأمر بالتسبيح في قوله: {سبح اسم ربك الأعلى} [الأعلى: 1] بشارة إجمالية للنبي صلى الله عليه وسلم بخير يحصل له، فهذا موقعُ البيان الصريح بوعده بأنه سيعصمه من نسيان ما يُقرئه فيبلِّغُه كما أوحي إليه ويحفظه من التفلت عليه، ولهذا تكون هذه الجملة استئنافاً بيانياً لأن البشارة تنشئ في نفس النبي صلى الله عليه وسلم ترقباً لوعد بخير يأتيه فبشره بأنه سيزيده من الوحي، مع ما فرَّع على قوله: {سنقرئك} من قوله: {فلا تنسى}.وإذ قد كانت هذه السورة من أوائل السور نزولاً.وقد ثبت في الصحيح عن ابن عباس: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعالج من التنزيل شِدة إذا نزل جبريل، وكان ممَّا يحرك شفتيْه ولسانَه، يريد أن يحفظه ويخشى أن يتفلت عليه فقيل له: {لا تحرّك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه} [القيامة: 16، 17]، إنّ علينا أن نجمعه في صدرك وقرآنه أن تقرأه: {فإذا قرآناه فاتبع قرآنه} [القيامة: 18]. يقول: إذا أُنزل عليك فاستمع، قال: فكان إذا أتاه جبريل أطرق فإذا ذهب قرأه كما قرأ جبريل كما وعده الله» وسورة القيامة التي منها {لا تحرك به لسانك} نزلت بعد سورة الأعلى فقد تعين أن قوله: {سنقرئك فلا تنسى} وعد من الله بعَونه على حفظ جميع ما يُوحى إليه.وإنما ابتدئ بقوله: {سنقرئك} تمهيداً للمقصود الذي هو: {فلا تنسى} وإدماجاً للإِعلام بأن القرآن في تزايد مستمر، فإذا كان قد خاف من نسيان بعض ما أُوحي إليه على حين قِلَّته فإنه سيتتابع ويتكاثر فلا يخش نسيانه فقد تكفل له عدم نسيانه مع تزايده.والسين علامة على استقبال مدخولها، وهي تفيد تأكيد حصول الفعل وخاصةً إذا اقترنت بفعل حاصل في وقت التكلم فإنها تقتضي أنه يستمر ويتجدد وذلك تأكيد لحصوله وإذ قد كان قوله: {سنقرئك فلا تنسى} إقراء، فالسين دالة على أن الإِقراء يستمر ويتجدد.والالتفات بضمير المتكلم المعظَّم لأن التكلّم أنسب بالإِقبال على المبشَّر.وإسناد الإقراء إلى الله مجاز عقلي لأنه جاعل الكلام المقروء وآمر بإقرائه.فقوله: {فلا تنسى} خبر مراد به الوعد والتكفل له بذلك.والنسيان: عدم خطور المعلوم السابق في حافظة الإنسان برهة أو زماناً طويلاً.والاستثناء في قوله: {إلا ما شاء اللَّه} مفرّع من فعل {تنسى}، و(ما) موصولة هي المستثنى.والتقدير: إلا الذي شاء الله أن تنساه، فحذف مفعول فعل المشيئة جريا علي غالب استعماله في كلام العرب، وانظر ما تقدم في قوله: {ولو شاء اللَّه لذهب بسمعهم وأبصارهم} في سورة البقرة (20).والمقصود بهذا أن بعض القرآن ينساه النبي إذا شاء الله أن ينساهـ.وذلك نوعان:أحدهما: وهو أظهرهما أن الله إذا شاء نسخ تلاوة بعض ما أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم أمره بأن يترك قراءته فأمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين بأن لا يقرأوه حتى ينساه النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون.وهذا مثل ما روي عن عمر أنه قال: (كان فيما أنزل الشيخُ والشيخه إذا زنيا فارجموهما) قال عمر: لقد قرآناها، وأنه كان فيما أنزل: (لا تَرغبوا عن ءابائكم فإنَّ كفراً بكم أن ترغبوا عن ءابائكم).وهذا ما أشير إليه بقوله تعالى: {أو ننسها} في قراءة من قرأ: {نُنْسِها} في سورة البقرة (106).النوع الثاني: ما يعرض نسيانه للنبي صلى الله عليه وسلم نسياناً موقتاً كشأن عوارض الحافظة البشرية ثم يقيض الله له ما يذكره به.ففي (صحيح البخاري) عن عائشة قالت: «سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يقرأ من الليل بالمسجد فقال: يرحمه الله لقد أذكَرَنِي كذا وكذا آيةً أسقطتهن أو كنت أنسيتُها من سورة كذا وكذا، وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسقط آية في قراءته في الصلاة فسأله أبَيّ بن كعب أُنسِخَتْ؟ فقال: نسيتُها».وليس قوله: {فلا تنسى} من الخبر المستعمل في النهي عن النسيان لأن النسيان لا يدخل تحت التكليف، أمَّا إنه ليست (لا) فيه ناهية فظاهر ومن زعمه تعسف لتعليل كتابة الألف في آخره.وجملة: {إنه يعلم الجهر وما يخفى} معترضة وهي تعليل لجملة: {فلا تنسى إلا ما شاء الله} فإن مضمون تلك الجملة ضمان الله لرسوله صلى الله عليه وسلم حفظ القرآن من النقص العارض.ومناسبة الجهر وما يخفى أن ما يقرؤه الرسول صلى الله عليه وسلم من القرآن هو من قبيل الجهر فالله يعلمه، وما ينساه فيسقطه من القرآن هو من قبيل الخفيّ فيعلم الله أنه اختفى في حافظته حين القراءة فلم يبرز إلى النطق به. اهـ.
|